في إحدى فصول الكتاب، وصف «إدوارد لين» القاهرة الرمضانيّة عام 1825، كما رآها، بعين المُستشرق، الذي تنبّه لكافة دقائق الشهر الكريم وعادات المُسلمين المصريين فيه، مع فهم مُستغرَب لأحكام دينية متعلقة به رُبما تشي أنه قد يكون التصق بطبقة العلماء لفترة طويلة، وإطلاع على عاداتٍ وأساطير وخرافات لصيقة بالمصريين في شهر الصوم تعكس انخراطًا من إدوارد في حياة المصريين وكأنما هو واحد منهم، ترصد المصري لايت بعضًا منها في التقرير التالي..
«إدوارد وليام لين» مستشرق، ومُترجّم، وكاتب إنجليزي، امتدت حياته مابين أول عام في القرن التاسع عشر، ليعيش حتى يبلغ القرن من العُمر أرذله، ويودعه «إدوارد لين» عام 1876، بعدما أبحَر تجاه عروس البحر المتوسط، وسافر منها للقاهرة حول عام 1825، ليمكث فيها ما قدّر الله له أن يمكُث ويسكن «باب الحديد»، ويتعلم اللُغة العربية، ويلازم شيوخ العلماء، ليكتب موسوعته في وصف القاهرة «المصريون الحديثون»، بعدما اختبر كافة مواسمهم وعاداتهم وشكل فريقًا مع أخته لتدخُل «عالم الحريم» ليصبح لموسوعته حظًا من الكمال بدخوله هذا العالم الذي لم يكُن لمستشرق أن يدخلها إلا عبر بوابة أخته.
ليلة الرؤية
من منظور السائح الذي تجذب عينيه تفصيلاتٍ رُبما هي بديهيّات في العقيدة بالنسبة لك نشأت وهي جزء من بناءك المعرفيّ، فإن «إدوارد لين» يبتدئ حديثه عن وصف مصر الرمضانيّة بشرح أهميّة وكيفيّة طقس رؤية الهلال، في بداية الشهر العربي المُخصص لأداء فعل «التقشُف» من قبل المصريين المُسلمين، والواقع في الشهر التاسع من التقويم العربي، فشخص واحد يستطيع رؤية الهلال في كبد سماء الوطن سيعلن عن شارة بدء الشهر الكريم.
في ليلة الرؤية، يجتمع وفد برئاسة شخصيّة «المُحتسب»، إلى جواره شيوخ طوائف المهن والتُجّار: الطحانين، والجزّارين، والخبّازين، والفكهانية، وبعض أعضاء هذه الطوائف، مع جانب من الفرق الموسيقيّة، إلى جوار فُقراء الدولة، وتُحوّطهم مجموعة من الجُند، يذهبون في موكبٍ حافِل حاجّ من القلعة إلى «بيت القاضي»، لحين عودة الشخص الموكَل بغز السير نحو الصحراء لاقتفاء أثر الهلال الوليد المُنتظر.
وانتظارًا للبُشرى، يصطف أفراد الشعب على جانبي الطُرق التي مرّ فيها الموكب منذ قليل، لمشاهدة الخيول المزدانة ابتهاجًا بهذه المُناسبة، والاستعراض الجنديّ المُبسط الذي يتم تقديمه من قبل جُند المُشاة يتقدم فيه كُل مجموعة من الجُند حُمّال المشاعل من الجنود كذلك لإضاءة الطريق، ويتبعهُم شيوخ المهن والتُجار يسيرون في وقار وتؤدة، في حين تلهج ألسنة الفقراء في خشوع «الصلاة، الصلاة، صلى على النبي، صلى عليه وسلم».
وبمجرّد وصول البُشرى وخبر الهلال، يتفرق الجُند منتشرين في أرجاء المدينة مُنادين وبكلمات مُجردة وواضحة «يا أتباع خير الخلق، الصيام.. الصيام»، أما إذا لم تتم رؤية الهلال، ينتشر نفس الجُند معلنين أنما سيكون اليوم التالي اليوم المُتمم لشهر شعبان، ومن ثم ليس من جدوى من الصوم فيه.
وكعهد مصريي القرن الواحد والعشرين، يقضي مصريو القرن التاسع عشر ليلة الصوم مزدحمين، ما بين الأكل والشرب والسمر والدُخان، وتزيين المساجد لاستقبال الشهر الكريم.
نهار مُنطفئ
في نهار رمضان، بدلاً من المشهد المعتاد في شوارع القاهرة لأناس حاملين «الشيش»، يتعجب «لين» من رؤيتهم فارغي الأيدين، أو على الأرجح يمكنك إذا كُنت من سُكان القاهرة في هذا الزمن، يمكنك أن تلمح في أياديهم خرز معقود في خيط، لعل «لين» كان يقصد بها المسبحة.
وبالرغم من سابق عهد مسيحيي مصر أن يخافوا من المجاهرة بعدم التضامن مع المسلمين في صومهم في عهود أخرى، إلا أنه في هذه الفترة التي شهدها «إدوار لين»، لم يكونوا يجدون عيـ ـبًا في تدخين «الشيشة» نهارًا في حوانيتهم.
على الرغم من ذلك، فإن مزاجًا عامًا من الضـ ـجر والملـ ـل هو ذلك الذي يسود نهارات هذه الشهر المقدس ليشمل شوارع، وبحسب تعبير الرجُل «بشكل عام، في نهار رمضان، وأثناء الصيام، سيكون جميع المُسلمين عابسون وكالحـ ـي الوجوه، بينما على الصعيد الآخر، وعندما يأتي المساء، سيعودون غالبًا إلى عادتهم في الابتسام والبشاشة».
وعلى الرغم من تجميد نشاط أغلب الصائمين في نهار رمضان، إلا أن تُجار أتراك اعتادوا إدخال إصلاحات وترتيبات على مسجد الحُسين في نهار رمضان وإعداده للصلاة والاعتكاف، بينما يستـ ـغل «التُحفجية»، كما يشير إليهم «لين»، ميضأة الجامع الحُسين، لبيع مجموعة من السلع لأجل رفاهية المُصلين.
«بيوت المُحسنين عمار»
ينتقل «إدوارد لين» على ذكر سلع الرفاهية إلى بيوت الأغنياء مباشرةً، فبالرغم من قضائهم النهار في حوانيتهم يقرأون القرآن ويوزعو ن الخُبز على الفقراء، فإنه على الصعيد الآخر في منازلهم، في حُجرة «المنظرة» أو استقبال الضيوف، ستجد بشكل تزيد احتماليته كلما اقترب موعد الإفطار أصناف متعددة من الطعام والشراب في مُقدمتها «النُقل» والفواكه المجففة والمكسرات، بالإضافة إلى «صواني الشربات» التي على الأرجح ما تحتوي على عدد أكواب أكثر من المتوقع حضورهم، فإذا زار ضيف غير متوقع فإن مكانه محفوظ من الطعام والشراب وحتى «الشيشة» التي تُعَد من قبل الإفطار لمزاج الصائمين.
وفي كتابه، يرصُد «لين» مُفارقة غريبة بين عالم الفُقراء وعالم الأغنياء، حيث من النادر تمامًا أن تجد أحد الفقراء قد تمـ ـرد على طقس الصوم ذاك، وأعلن إفطاره، وإن يكُن سيشـ ـق صيامه عند سقوط الشمس على فنجان من القهوة على مقهى متواضع و «حجر» من الشيشة، بينما على الصعيد الآخر فإن العديد من أعضاء الطبقة المتوسطة والعُليا اعتادوا أن يتخلوا عن صيامهم في السر، حسب «لين».
نظام غذائي مُحكم
وبالرغم من عدد الساعات التي يمسك فيها المُسلمون عن الطعام صائمين، إلا أن لسان حالهُم تجاه الطعام بعد غروب الشمس لا يميل إلى الهرولة قدر ما يميل إلى التمهُل، فبعد الإفطار على كوب من «الشربات»، يذهب المسلمون لأداء صلاة المغرب في المساجد ثم يعودون لتناول المكسرات وتدخين الشيشة، حسب «لين»، حتى يأتي موعدهم مع الإفطار الدسم المتوقع والمشتمل على صنوف من اللحوم المعدة بعناية، رُبما بعد صلاة المغرب بفترة، ليُذيلوا الوجبة الثقيلة هذه بإمامة المسجد وأداء صلوات الليل، أو صلاة التراويح، التي تؤدى في رمضان فحسب، وتعد بعشر ركعات بين العشاء والوتر، لمواصلة السهر والسمر فيما بعد على المقهى الذي على الأغلب ما يستضيف أحد المطربين، أو رواة الملاحم والسير الشعبية، في حين ترتد الحياة في الحوانيت التي انقطع عنها النشاط في النهار.
وبينما يقضي العوام ليل رمضان في السهر والتفكه، فإن عادة العلماء على هي استضافة حلقات الذكر في منازلهم والترحيب بالمُريدين القادمين لغرض ذكر الله وختم القُرآن.
«المُسحّر» والضرائر
كما تهجاه تمامًا «إدوارد لين» في كتابه، أو المسحراتي حسبما نعرفه اليوم، هو الشخص المسؤول عن إيقاظ المصريين لتناول وجبة السحور في عز الليل قبل أن يُدركهم الفجر ليستعينوا بها على نهار الصوم.
بنداءه المحفوظ، وطبلته و «بازته» يبدأ في طواف شوارع المحروسة بعد ساعتين من الغروب لكي ينتهي منها تمامًا قُبيل الفجر بوقت يسير يسعه التسحُّر هو فيه، بينما يصاحبه فتى صغيرًا في الطواف يحمل له قنديلين لكي يضيئا الطريق أمامهما في هذه العتمة.
ويُلمح «لين» إلى طبقية ما في خطة عمل «المسحراتية» الذين يتوقفون لدىك كُل باب من أبواب الأغنياء وقتًا مناسبًا لإيقاظ منتوي الصيام هناك، بينما يتجاهلون على الأغلب دور الفقراء الذين لن ينفذوهم أخيرًا مالاً نظير إيقاظهم.
وبالرغم من تعدد المسحراتيّة إلا أنه نوتة موسيقية محددة هي تلك التي يستخدمونها جميعًا للطرق على طبلتهم الخاصة، ضمّنها «إدوارد لين» في كتابه، إلى جوار نصوص النداءات المستخدمها المسحراتية ومن بينها: لا إله إلا الله.. محمد رسول الله… أسعد الليالي على(…) ذاكرًا اسم العائلة وأفرادها واحدًا واحد من الرجال، يتوسط الفواصل بين الجُمل عزف منفرد على طبلة المسحراتي.
وفي دعاء مُميز للفتيات صغيرات السن، يتم استثناءهم من القاعدة، ليدعو لهم المسحراتي «أسعد الليالي على ست العرايس، فليتقبل الله صلاتهن وصيامهم وسائر أعمالهن في الخير»، ليُذيّل دعاءه في بعض الأحيان بحكاية الإسراء والمعراج بشكل خاص، أو قبس من السيرة النبوية ومعجزة نبي المسلمين بشكل عام.
وفي عادةٍ مختصةٍ تمامًا بالنساء المصريات المؤتنسات بنداء المسحراتي، فإنهن غالبًا ما تضعن مجموعة من النقود الفضية في ورقة وتلففنها جيدًا ثم تشعلن النار فيها، فيستطيع أن يراها المسحراتي وهي طائرة إليه من السماء ومُشتعلة، ليبدأ هو في التخلي عن السياق المقدس والروحاني المُتنبنيه من أول رحلته، ليحكي حدوتة «دنيوية» مقتبسة من سياقٍ حرب «الضرائر» والتي رُبما تحتوي على حديث «غير مُهذّب» ترهف إليه السمع سيدات البيوت حسان السُمع، في تناقُض صـ ـارخ مع روحانية الشهر ومع وضع السيدات.
سر ليلة القدر
يأتي «لين» أخرًا على ذكر العشر الأواخر من الشهر الفضيل، وفيهم ليلة القدر، والتي تكتسب مكانتها من كونها الليلة التي نزل فيها القرآن على نبي المٌسلمين، ويُفترض أن تكون في الليلة السابعة والعشرين من الشهر، غير أن المسلمون يعتكفون في مساجد «الحُسين» و«السيدة زينب» مدة العشر الأواخر في انتظارها.
ومن بين الأساطير المعروفة عن ليلة القدر أن فيها يحتوي الماء المالح إلى ماء حلو، وبناءً على ذلك، فإنه من المعتاد أن يُحتفظ بعبوة مياه مالحة، وتذوقها في كل يوم، لمعرفة أي يوم تنزّلت فيه الملائكة للسماء القريبة، وبدأوا في إرسال الرحمات، والاستغفار لأهل الأرض.
المصدر المصري اليوم
التعليقات