الليل يزداد صقيعًا في هذه الواحة في الأيام الأخيرة لشهر أكتوبر من عام 1963، والعقيد يشعر بأطرافه ترتجف، ليس بوسعه أن يفعل شيئًا الآن سوى انتظار مصيره حين يصل ذلك الشخص المنتظر، يسند رأسه إلى جزع النخلة ويغمض عينيه مستعيدًا اللحظات التي قادته إلى هنا.
تمر الدقائق وكأنها قرون طويلة على العقيد المصري المكبل بالحبال في جذع نخلة في الصحراء المغربية، كان حضوره إلى ذلك المكان خطئًا غير مقصود، إلا أنه يبدو مكلفًا للغاية، «ماذا سيحدث لي وباقي طاقم الطائرة الآن، هل سيقتلوننا، أم سيحتفظون بنا أحياء»، تنتابه تلك المخاوف بينما يتطرق إلى سمعه حديث أهل واحة محاميد الغزلان، يقولون إنهم تحدثوا إلى الجيش المغربي وأن ثمة شخص ما سيأتي ليصطحب الآسرى المصريين.
كانت العلاقات المصرية المغربية متوترة منذ إطاحة الضباط الأحرار بالملك فاروق من حكم مصر، حسب موقع «ناظور سيتي» المغربي نقلًا عن الباحث محمد لومة، ما جعل عبدالناصر يساند الجزائر، والتي كانت تحظى مع مصر بعلاقة وطيدة، في حربها ضد المغرب عام 1963، فيما عرفت بـ«حرب الرمال»، وبالفعل أرسلت مصر قوة عسكرية تعدادها ألفا من الجنود والضباط إلى الجزائر، كان بينهم عقيد طيار لم يكن شهيرًا وقتها إلا أنه أصبح الأشهر في بلاده بعد أقل من عقدين، من الزمان، فلم يكن هذا العقيد سوى من أصبح لاحقًا رئيسًا لجمهورية مصر العربية، محمد حسني مبارك.
صعد العقيد «مبارك» و5 ضباط مصريين آخرين، بالإضافة إلى عضو مجلس قيادة الثورة الجزائرية، شريف بلقاسم، على متن طائرة الهليكوبتر التي كلفت باستطلاع الحدود الجزائرية-المغربية، ومنطقة القتال، وانطلقت الهيليكوبتر في مهمتها، لا يعلم من عليها أنهم لن يعودوا إلى نفس مكانهم هذا مجددًا، فالرحلة لم تسر كما خططوا لها نهائيًا.
اختلفت الروايات ولا يعلم أحد ما حدث بالتحديد، البعض يقول عاصفة رملية قادتهم إلى مصيرهم وآخرون يقولون إن قائد الطائرة ضل طريقه، وتختلف الروايات إلا أن النتيجة لم تختلف، لقد اضطرت الطائرة للهبوط في حقول زراعية، بين الدواجن والكلاب، لتحاط في ثوان محدودة بأصحاب تلك الحقول، ليتبين لهم أنهم هبطوا في آخر مكان يتمنون أن يكونوا فيه في تلك اللحظة.. لقد كانوا في الشرق المغربي محاطون بسكان واحة محاميد الغزلان آسرى لا حول لهم ولا قوة.
كان المصريين صيدًا ثمينًا للمملكة المغربية، لا سيما هذا العقيد الطيار، وسريعًا انتقل ضابط من المخابرات المغربية لموقع آسر الضباط المصريين، ليجد الضباط المصريين مكبلين بالحبال في جذوع النخيل، بل وحتى الهيليكوبتر تم ربطها في جذوع النخيل، ما فسره له سكان القرية بخوفهم أن تطير.
نقل المصريين إلى مراكش، حيث معتقل دار المقري الشهير، والذي اكتظ في هذه الأثناء بأعضاء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذين اعتقلوا على خلفية ما عرفت في المغرب بـ«مؤامرة 15 يوليو 1963»، ووضعوا في إحدى القاعات التي توجد في إحدى زوايا الدار.
ثار الملك الحسن الثاني بعد أثر الضباط المصريين، واعتبر أن ذلك يعتبر دليلًا واضحًا على تدخل مصر في الصراع بينه وبين الجزائر، ليقرر أن يستدعي سفير بلاده في القاهرة، وطرد المعلمين المصريين من المغرب، حتى وصل به الأمر إلى منع الأغاني المصرية من الإذاعة، والأفلام المصرية من السينمات.
ومرت الأيام على المعتقلين في «دار المقري»، تقول روايات إن «مقدم» منهم رفض الحديث مع المحققين، وطلب الاحتكام لاتفاقية جينيف المتعلقة بآسرى الحرب، كما تقول نفس الرواية إن «مبارك» تحدث واعترف بكل شيء أمام المحقق المغربي، إلا أن تلك الروايات تبقى غير مؤكدة.
انتهت الحرب وظهرت بوادر تحسن في العلاقات بين الجمهورية المصرية والمملكة المغربية، ودعى الرئيس المصري جمال عبدالناصر الملك الحسن الثاني لزيارة القاهرة، ووقف ليستقبله في مطار القاهرة مصطحبًا طفلة صغيرة تحمل باقة من الورد قدمتها للملك المغربي بعدما وطأت أقدامه أرض العاصمة المصرية، لينحني الملك يقبلها ويعود لينظر للرئيس المصري قائلًا: «شكرًا سيدي الرئيس على باقة الورد، وأنا بدوري سأهديك باقة من اللحوم الحية»، ما كان يعنيه الملك حينها هو أنه سيسلم لعبدالناصر مجموعة الضباط المصريين، وبينهم حسني مبارك، الذي عاد من الأسر ليترقى في المناصب إلى أن وصل لكرسي الرئاسة، عام 1981.
المصدر المصري اليوم
التعليقات